الملهمـة
قصة محمود البدوى
كان إبراهيم عبد المجيد يكتب القصة القصيرة فى المجلات والصحف منذ سنوات .
وكان يصور حياة الفقراء والبؤساء ، والذين قست عليهم الحياة وشردهم المجتمع ، أبلغ تصوير .
كان يكتب بكثرة ويعمل ليل نهار ، ومع ذلك لم يجد لما يكتبه صدى ، ولا أثرا فى نفس أحد من القراء ، كانت كتاباته تذهب مع الريح . لم يتحدث عنه ناقد ، ولم تكتب عنه صحيفة ، ولم تصله رسالة من انسان تشجعه على مواصلة جهوده . . ! !
ومع هذا ، فإن إبراهيم لم ينقطع عن الكتابة والنشر ، ذلك أنه كان يجد سلوته الوحيدة وناصره ومشجعه على المضى فى طريقه .. من جارته الحسناء ! وكانت أرمل فى الثلاثين من عمرها ، غضة الأهاب ، ريانة العود ذات عينين سوداوين ناعستين وأنف دقيق وخد مورد وبشرة ناصعة البياض .
كان يراها من شرفته تقلب بيدها الرخصة المجلات المصورة التى كان يكتب فيها ، وكان يراها وهى تقلب المجلة ، وتبتسم تلك الابتسامة الفاتنة ويتصور أنها تقرأ قصته ، وتبتسم لفكاهاته ، ثم يراها مرة أخرى حزينة واجمة ، فيتصور أنها تأثرت من إحـدى قصصه المحزنة ! كان يرى كلامه مطبوعا على جبينها ، وكان يفسر كل حركة تصدر منها بأنها إيحاء من قصصه !
وكان يتصور أنها تتبع حركاته وسكناته ، فترقبه وهو خارج من المنـزل ، وتستقبله وهو عائد إلى بيته من وراء سجف النافذة . ولهذا كان يميد من الزهو ويشعر بارتياح شديد ونشاط لاحد له وكان يكتب .. ويكتب .. غير عابىء بما يحيط به من انكار وجحود ، كان يكفيه أن هذه السيدة الجميلة تقرأ له وتعجب به .
كان يكفيه هذا ، وكان يكتب لها وحدها ، وكان يشعر بها تغمر جوانب نفسه بنور قوى ، كانت تدفعه إلى العمل والجهاد وإن لم يتحدث إليها قط ، كان يكتفى منها بهذه الابتسامة المشرقة من بعيد .
ومضت الأيام وهو يواصل عمله بنشاط ، وصورة جارته الحسناء لاتبرح مخيلته أبدا .
وفى ليلة من الليالى كان جالسا إلى مكتبه يكتب كعادته ، فسمع جرس الباب الخارجى يدق ، فنهض وتوجه إلى الباب ، فألفى خادم جارته الحسناء فسر لهذا جدا ، واستقبل الخادم مرحبا !
وقال له الخادم :
ـ تسمح بقلم حبر ...
وطار من الفرح ، فقد حسب أن السيدة تطلب القلم لتكتب له رسالة تشجيع !
وأسرع إلى مكتبه ، وعاد بالقلم ، وقبل أن يعطيه للخادم ، سأله فى لهفة :
ـ لمن .. لسيدتك ؟
ـ لا .. لسيدى الصغير .. ستى لاتعرف القراءة ! !
وسقط القلم من يد القصصى النابغ ، من هول الصدمة ولم يكتب بعدها حرفا .. !
=================================
نشرت القصة بالمجموعة القصصية " العربة الأخيرة " سنة 1948 لمحمود البدوى
=================================
قصة محمود البدوى
كان إبراهيم عبد المجيد يكتب القصة القصيرة فى المجلات والصحف منذ سنوات .
وكان يصور حياة الفقراء والبؤساء ، والذين قست عليهم الحياة وشردهم المجتمع ، أبلغ تصوير .
كان يكتب بكثرة ويعمل ليل نهار ، ومع ذلك لم يجد لما يكتبه صدى ، ولا أثرا فى نفس أحد من القراء ، كانت كتاباته تذهب مع الريح . لم يتحدث عنه ناقد ، ولم تكتب عنه صحيفة ، ولم تصله رسالة من انسان تشجعه على مواصلة جهوده . . ! !
ومع هذا ، فإن إبراهيم لم ينقطع عن الكتابة والنشر ، ذلك أنه كان يجد سلوته الوحيدة وناصره ومشجعه على المضى فى طريقه .. من جارته الحسناء ! وكانت أرمل فى الثلاثين من عمرها ، غضة الأهاب ، ريانة العود ذات عينين سوداوين ناعستين وأنف دقيق وخد مورد وبشرة ناصعة البياض .
كان يراها من شرفته تقلب بيدها الرخصة المجلات المصورة التى كان يكتب فيها ، وكان يراها وهى تقلب المجلة ، وتبتسم تلك الابتسامة الفاتنة ويتصور أنها تقرأ قصته ، وتبتسم لفكاهاته ، ثم يراها مرة أخرى حزينة واجمة ، فيتصور أنها تأثرت من إحـدى قصصه المحزنة ! كان يرى كلامه مطبوعا على جبينها ، وكان يفسر كل حركة تصدر منها بأنها إيحاء من قصصه !
وكان يتصور أنها تتبع حركاته وسكناته ، فترقبه وهو خارج من المنـزل ، وتستقبله وهو عائد إلى بيته من وراء سجف النافذة . ولهذا كان يميد من الزهو ويشعر بارتياح شديد ونشاط لاحد له وكان يكتب .. ويكتب .. غير عابىء بما يحيط به من انكار وجحود ، كان يكفيه أن هذه السيدة الجميلة تقرأ له وتعجب به .
كان يكفيه هذا ، وكان يكتب لها وحدها ، وكان يشعر بها تغمر جوانب نفسه بنور قوى ، كانت تدفعه إلى العمل والجهاد وإن لم يتحدث إليها قط ، كان يكتفى منها بهذه الابتسامة المشرقة من بعيد .
ومضت الأيام وهو يواصل عمله بنشاط ، وصورة جارته الحسناء لاتبرح مخيلته أبدا .
وفى ليلة من الليالى كان جالسا إلى مكتبه يكتب كعادته ، فسمع جرس الباب الخارجى يدق ، فنهض وتوجه إلى الباب ، فألفى خادم جارته الحسناء فسر لهذا جدا ، واستقبل الخادم مرحبا !
وقال له الخادم :
ـ تسمح بقلم حبر ...
وطار من الفرح ، فقد حسب أن السيدة تطلب القلم لتكتب له رسالة تشجيع !
وأسرع إلى مكتبه ، وعاد بالقلم ، وقبل أن يعطيه للخادم ، سأله فى لهفة :
ـ لمن .. لسيدتك ؟
ـ لا .. لسيدى الصغير .. ستى لاتعرف القراءة ! !
وسقط القلم من يد القصصى النابغ ، من هول الصدمة ولم يكتب بعدها حرفا .. !
=================================
نشرت القصة بالمجموعة القصصية " العربة الأخيرة " سنة 1948 لمحمود البدوى
=================================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق